تعد العبارة الشهيرة للفيلسوف والناقد الإنجليزي والتر بيتر، "كل الفنون تطمح باستمرار إلى الحالة الموسيقية"، واحدة من أكثر التأملات الفلسفية تأثيرًا في مجال الدراسات الجمالية والفنية. أثارت هذه الفكرة نقاشات عميقة حول طبيعة الفنون المختلفة وطبيعة الجمال، خاصة في كيفية فهم العلاقة بين الشكل والمضمون، بين التجريد والتعبير. لماذا تعتبر الموسيقى حالة مثالية للفن؟ وكيف يمكن للفنون الأخرى أن تطمح إلى تحقيق هذه الحالة؟ هذا المقال يتناول الإجابة على هذا السؤال من زوايا فلسفية ونقدية متعددة.
مصدر العبارة وتأثيرها على الفن: كل الفنون تطمح أن تكون مثل حالة الموسيقى
الجملة الشهيرة "كل الفنون تطمح أن تكون مثل الموسيقى" تُنسب إلى والتر باتر (Walter Pater)، وهو ناقد أدبي وفني إنجليزي، وليست من تأليف نيتشه كما يُعتقد أحيانًا. هذه العبارة وردت في كتابه "دراسات في عصر النهضة" (Studies in the History of the Renaissance)، الذي نشر في عام 1873.
النص الأصلي (بالإنجليزية) للعبارة هو:
All art constantly aspires towards the condition of music." :Walter Pater, Studies in the History of the" Renaissance.
في الترجمات العربية بالشكل التالي: "كل الفنون تطمح باستمرار إلى الحالة الموسيقية." والتر بيتر، دراسات في تاريخ عصر النهضة.
"كل الفنون تطمح باستمرار إلى حالة الموسيقى."
تفسير العبارة: تُعد هذه العبارة واحدة من أبرز التأملات الفلسفية حول طبيعة الفن، وقد أثارت نقاشات واسعة بين الفلاسفة والنقاد. أشار والتر بيتر من خلالها إلى أن الموسيقى، بصفتها فنًا غير موضوعي وخالصًا، تمتلك القدرة على التعبير عن العاطفة والجمال دون الحاجة إلى الاعتماد على السرد أو التفسير المباشر. بمعنى آخر، تُعتبر الموسيقى أكثر الفنون نقاءً وتجريدًا لأنها تركز على الشكل والجمال وحدهما، بعيدًا عن المفاهيم والرموز.
سياق الجملة في الكتاب: والتر باتر كتب هذا في فصل مخصص لتحليل العلاقة بين الفنون المختلفة.
كان يقصد أن الموسيقى، بسبب طبيعتها التجريدية، قادرة على تحقيق الكمال في التعبير الجمالي دون الحاجة إلى وسائط تمثيلية مثل الكلمات أو الصور.
أشار إلى أن الفنون الأخرى مثل الرسم أو الأدب تسعى إلى تحقيق نفس مستوى النقاء والتأثير العاطفي الموجود في الموسيقى.
أهمية العبارة
هذه العبارة أثرت في الكثير من الفلاسفة والفنانين، لأنها تضع الموسيقى كمعيار للتعبير الفني المثالي، الفكرة تلقت استجابة من مفكرين آخرين مثل نيتشه، الذي أعاد التفكير في دور الموسيقى والفن في كتابه "مولد التراجيديا"؛ مازالت هذه العبارة تثير تساؤلات حول غاية الفن والجمال.
لماذا الموسيقي نموذج مثالي في التعبير الفني؟
حول الموسيقى باعتبارها أرقى لغة فنية لإيصال المعاني تعكس بالفعل روح الجملة الشهيرة "كل الفنون تطمح أن تكون مثل الموسيقى". إذا نظرنا إلى هذه العبارة من زاوية فلسفة الفن واللغة، فإن الموسيقى تتميز بخصائص تجعلها لغة عالمية تتجاوز قيود اللغات الأخرى. دعنا نستكشف هذا المفهوم بشكل أعمق:"الفن كوسيلة تواصل ولغة معبرة"
الفن كلغة رمزية: جميع أنواع الفنون، سواء كانت الرسم، الأدب، النحت، أو المسرح، تُعتبر وسيلة للتعبير عن مشاعر وأفكار قد لا تستطيع الكلمات التعبير عنها بشكل كافٍ، والفن هو لغة خاصة يستخدمها كل فنان وكل مبدع ليقدم افكارة الى الجمهور، والفن يخلق رموزًا بصرية أو سردية أو حسية تُترجم تجارب الإنسان الوجودية.
الموسيقى كأرقى لغة: الموسيقى تتجاوز الرمزية إلى التعبير المباشر عن العاطفة مما يمكنها أن توصل المشاعر بشكل فوري وشامل، دون أن تحتاج إلى تفسير أو ترجمة، وهذا يجعلها قادرة على التأثير في أي شخص بغض النظر عن ثقافته أو لغته.
كما قال شوبنهاور، الموسيقى "تعبير مباشر عن الإرادة"، فهي لا تحاكي العالم، بل تعبر عن جوهره.
الفنون والموسيقى: أوجه التشابه والاختلاف
الموسيقى ليست مجرد شكل من أشكال الفن، بل هي لغة عالمية قادرة على إيصال أعمق المعاني والعواطف. ربما لا تحتاج الموسيقى إلى "طموح" لأنها بالفعل تمثل الحالة المثالية التي تسعى الفنون الأخرى لبلوغها. من خلال التعبير النقي وغير المقيد، تجعل الموسيقى العالم أقرب وأكثر ارتباطًا بالمعاني الإنسانية الجوهرية.
الموسيقى كفن تجريدي خالص
تتميز الموسيقى بأنها أكثر الفنون تجريدًا، فهي لا تعتمد على الصور أو الكلمات أو الرموز لتوصيل المعاني. الموسيقى تخاطب الحواس والعواطف مباشرة من خلال النغمات والإيقاعات والهارموني، دون الحاجة إلى وسائط تمثيلية. هذا يجعلها قادرة على تجاوز القيود اللغوية والثقافية، حيث يمكن أن تؤثر في المستمع بشكل عالمي.
التعبير دون محتوى محدد
على عكس الأدب أو الرسم، الموسيقى لا تحتاج إلى "موضوع" أو "قصة" لكي تُفهم أو تُقدَّر. هذه الخاصية تجعل الموسيقى حالة مثالية للفن، حيث يكون التركيز على التجربة الجمالية بحد ذاتها، وليس على المعاني أو الرسائل التي قد يحملها العمل.
إثارة الخيال
تعمل الموسيقى على خلق تجربة فريدة للمستمع وتثير مشاعر وخيال المتلقي مما يجعل التفاعل فريد ومختلف من شخص لأخر، بينما تخلق الموسيقى بانواعها تجارب متشابها للبشر لكن تظل مقطوعة موسيقية مثل "موزارت- ليلة موسيقية قصيرة" عالقة في اذهان كل شخص ومرتبطة بمشاعر وزكريات مختلفة.
الإحساس بالزمن والحركة
الموسيقى تعتمد على الزمن كعنصر أساسي. فهي تتطور في الزمن وتخلق تجربة متكاملة للمستمع من خلال التحول بين اللحظات الساكنة والمتحركة. الفنون الأخرى، مثل الرسم أو النحت، رغم أنها قد تخلق إحساسًا بالحركة أو الزمن، إلا أنها لا تعتمد عليه بنفس الدرجة.
لماذا الموسيقى أكثر شمولاً؟
- تجاوز الحدود اللغوية: بينما يعتمد الأدب والشعر على الكلمات التي قد تكون محصورة بثقافة معينة، فإن الموسيقى تتحدث بلغة النغمات التي يفهمها الجميع. مقطوعة موسيقية كـ"سمفونية بيتهوفن التاسعة" يمكن أن تؤثر في إنسان من أي خلفية ثقافية.
- التأثير العاطفي المباشر: الموسيقى لا تحتاج إلى تفسير فكري؛ فهي تؤثر مباشرة على العواطف والروح. هذا ما يجعلها أداة مثالية لإيصال الأحاسيس المعقدة التي قد تكون غير قابلة للوصف.
- الطابع الديناميكي: الموسيقى تتغير مع الزمن وتتحرك، وهذا يعكس طابع الحياة نفسه، مما يجعلها أكثر ارتباطًا بالإنسان في تجربته اليومية.
أمثلة على الموسيقى كلغة عالمية
- السمفونية التاسعة لبيتهوفن: أصبحت رمزًا عالميًا للأمل والتضامن، فهي تتحدث عن الإخاء الإنساني دون كلمات معقدة.
- الأغاني الشعبية التقليدية: الموسيقى الفولكلورية عبر الثقافات قادرة على التعبير عن هوية الشعوب وتاريخها.
- موسيقى الأفلام: الموسيقى التصويرية في الأفلام تتجاوز اللغة لتخلق تأثيرًا عاطفيًا يجمع الجمهور من ثقافات مختلفة.
اذا كنت فنان تشكيلي او كاتب، او مبدع في اى مجال فني قد تشعر بالغيرة او الاستفزاز لسماع ان الموسيقي هي المثل الاعلى للفنون، لكن الأمر ليس كذلك، يجب ان تتمتع بفهم اعمق للفن، هذا لا ينكر ان فنون مختلفة حققت الكثير من المجد الذي لم تحققة انواع من الموسيقى لكن فهم الابداع يتطلب التحليل المستمر، ألم تسأل يوماً كيف نجح فيلم او فنان او رواية كيف انتشرت واستقبلها شعوب الارض؟ سوف نتعرف على معادلة النجاح للفن.
لماذا تطمح الفنون الأخرى إلى الحالة الموسيقية؟
فهم الطموح الفني نحو الموسيقى؛ إن سعي الفنون الأخرى نحو الحالة الموسيقية يعكس رغبة الإنسان في تحقيق تجربة جمالية نقية وخالصة، تتجاوز حدود الوسائط التقليدية وتصل مباشرة إلى العاطفة والوجدان. تمثل الموسيقى نموذجًا مثاليًا لهذا الطموح بسبب نقائها وتجريدها، مما يجعلها هدفًا تسعى إليه جميع الفنون لتحقيق حالة من الانسجام الكامل بين الشكل والمضمون؛ هذا السعي ليس مجرد تقليد بل هو بحث عن الكمال الجمالي الذي يجعل من الفن تعبيرًا صادقًا عن الروح الإنسانية.
السعي نحو النقاء الجمالي
تسعى جميع الفنون إلى تقديم تجربة جمالية نقية، خالية من التعقيدات التي قد تأتي من الاعتماد على السرد أو الرمزية. الموسيقى تمثل هذا النقاء، حيث أن كل عنصر فيها (مثل النغمة أو الإيقاع) موجود فقط لخدمة الجمال الكلي.
التحرر من القوالب
الفنون التشكيلية، مثل الرسم والنحت، غالبًا ما تُقيَّد بقوالب تمثيلية تعكس الواقع أو تصور موضوعًا معينًا. هذه القيود قد تحد من قدرتها على التعبير بحرية حيث تطمح هذه الفنون إلى "الحالة الموسيقية" لأنها تتيح التحرر من تلك القوالب وتوجيه التركيز إلى الجمال الفني.
التأثير المباشر على العواطف
تتميز الموسيقى بقدرتها على الوصول إلى أعماق النفس البشرية وإثارة مشاعر متنوعة بشكل فوري. الفنون الأخرى تطمح إلى تحقيق نفس التأثير، لكنها غالبًا ما تحتاج إلى وسيط أو تفسير من المتلقي لتحقيق ذلك.
الفلسفة الجمالية والحالة الموسيقية
تفسير العبارة من قِبَل المفكرين والفلاسفة في مجال الفن.
وجهة نظر والتر بيتر: اعتبر بيتر أن الموسيقى هي أرقى أشكال الفن لأنها تمثل الانسجام المثالي بين الشكل والمضمون. في رأيه، يمكن للفنون الأخرى أن تسعى نحو تحقيق حالة مشابهة من خلال التركيز على الجوانب الشكلية وإزالة العناصر التي تعتمد على التمثيل أو السرد، تلك الفلسفة توافقت مع العديد من المفكرين مثل:
1. كليمنت غرينبرغ (Clement Greenberg) والنقاء الفني: ركز الناقد الفني غرينبرغ على أهمية "النقاء" في الفن، حيث يجب أن يسعى كل نوع فني إلى التركيز على وسائله الأساسية. بالنسبة له، الموسيقى تمثل حالة نقاء مطلق، والفنون الأخرى يجب أن تطمح إلى حالة مشابهة من خلال التركيز على خصائصها الشكلية.
رأى غرينبرغ أن الفنون البصرية، مثل الرسم والنحت، يجب أن تسعى إلى النقاء والتركيز على الوسيط ذاته، بعيدًا عن السرد أو المعاني الخارجية. واعتبر أن فكرة والتر بيتر تشجع الفنانين على استكشاف جوهر وسائطهم، مثل الألوان والخطوط، تمامًا كما تفعل الموسيقى مع النغمات والإيقاعات.
2. فريدريك نيتشه (Friedrich Nietzsche): اعتبر نيتشه الموسيقى الشكل الأعلى للفن لأنها تمثل التعبير عن الإرادة الإنسانية والحياة نفسها، دون الحاجة إلى تبرير عقلاني. العبارة، في نظر نيتشه، تسلط الضوء على قيمة الفن كوسيلة لتجاوز حدود اللغة والمنطق.
3. روجر فراي (Roger Fry): من منظور النقد الفني، رأى فراي أن الرسم يجب أن يُقدَّر كفن بصري خالص، تمامًا كما تُقدَّر الموسيقى كفن سمعي. وتتماشى أفكاره مع رؤية والتر بيتر حول سعي الفنون الأخرى لتحقيق تأثير جمالي مشابه للموسيقى.
4. جون ديوي (John Dewey): في كتابه الفن كتجربة، ركز ديوي على التجربة الجمالية المباشرة التي يمر بها الإنسان مع الفن. من هذا المنطلق، فإن العبارة تشير إلى أن الفن يجب أن يكون "مباشرًا"، مثل الموسيقى، في تأثيره العاطفي على المتلقي.
الفلسفات المؤيدة لهذه الرؤية
شوبنهاور: اعتبر الموسيقى تجسيدًا مباشرًا لإرادة الحياة. بالنسبة له، الموسيقى ليست مجرد محاكاة للعالم، بل هي العالم ذاته في شكل صوتي.
نيتشه: يرى الموسيقى كأسمى أشكال الفن لأنها تعبر عن القوة الحيوية والروح الديونيسوسية التي تمثل الفوضى والطاقة الحيوية للإنسان.
ليو تولستوي: مع أنه ركز على الجانب الأخلاقي للفن، إلا أنه أكد قدرة الموسيقى على التوحيد بين البشر، لأنها تخاطب المشاعر المشتركة بينهم.
فريدريك نيتشه والموسيقى كفن أعلى
في فلسفة نيتشه، تمثل الموسيقى جوهر الإرادة الإنسانية وتعبيرًا عن قوة الحياة. يرى نيتشه أن الموسيقى تتجاوز الفنون الأخرى لأنها تعبر عن الحياة ذاتها، وليس عن مظاهرها. الفنون الأخرى، في سعيها نحو الحالة الموسيقية، تسعى إلى تجاوز الحدود المادية للوصول إلى هذه التجربة الوجودية.
تأثر الفيلسوف الألماني فريدريش نيتشه بفكرة الموسيقى، وقد عبّر عنها أو بمعناها القريب في كتابه "مولد التراجيديا" (The Birth of Tragedy)، حيث استعرض نيتشه فلسفته الفنية العميقة التي تعطي الموسيقى مكانة مركزية بين الفنون.
نيتشه كان يرى أن الموسيقى هي أرقى أشكال التعبير الفني لأنها:
- تخاطب العاطفة مباشرة: الموسيقى لا تحتاج إلى وساطة اللغة أو الصور لفهمها، فهي تصل إلى أعماق النفس البشرية وتعبّر عن التجربة الإنسانية بشكل نقي وعميق.
- تعبر عن إرادة الحياة: تأثر نيتشه بفلسفة آرثر شوبنهاور، الذي اعتبر أن الموسيقى هي "اللغة المباشرة للإرادة". الموسيقى قادرة على التعبير عن الجانب الديناميكي والخفي للحياة، بعكس الفنون الأخرى التي تتعامل مع العالم من خلال تصورات حسية أو رمزية.
- ارتباطها بجوهر المأساة: وفقًا لنيتشه، الموسيقى تجسد الروح الديونيسوسية (نسبةً إلى الإله ديونيسوس في الميثولوجيا الإغريقية)، التي تمثل العواطف الجامحة والطاقة الحيوية والفوضى، وهي ما يجعلها قادرة على خلق التوازن مع الروح الأبولونية (النظام والعقل والجمال المثالي) الموجودة في الفنون الأخرى مثل الرسم والنحت.
من خلال فلسفة نيتشه عن الفن والجمال قدّم تفسيرًا ثنائيًا للفن من خلال مفهومي:
الأبولونية: الفن الذي يعتمد على العقل والنظام، مثل الرسم والنحت والشعر الملحمي، وهذا النوع من الفن يتعامل مع العالم كتمثيل وتصوير للأشكال الجميلة.
الديونيسوسي: الفن الذي يعبّر عن الجانب العاطفي والغرائزي والفوضوي، مثل الموسيقى والرقص، والموسيقى تمثل هذا الجانب لأنها تتجاوز الشكل لتخاطب الوجود الداخلي للإنسان.
وفقًا لهذه الفلسفة، كل الفنون الأخرى تسعى إلى تحقيق حالة الموسيقى المثالية لأنها تريد أن تخاطب الروح بنفس العمق والعاطفة التي تستطيع الموسيقى تحقيقها بسهولة.
الأمثلة والتأثير الفني
- في الأدب: نيتشه رأى في الشعر الملحمي والدرامي محاولات لإيجاد موسيقى داخل الكلمات. الأدب والشعر يطمحان إلى الموسيقى لأنهما يسعيان إلى التأثير العاطفي ذاته.
- في الرسم: يمكن رؤية ذلك في أعمال الفنانين مثل فان جوخ، حيث تتجاوز الألوان والشكل التفاصيل الظاهرة لتحقق حالة شعورية أقرب إلى الموسيقى.
النقد والتأمل
- إيجابيات الفكرة:تعيد تقييم الموسيقى كفن عظيم غير محدود بالشكل أو اللغة وتؤكد أهمية الجانب العاطفي والحسي في الفنون.
- نقاط النقد: البعض يرى أن هذه النظرة تقلل من قيمة الفنون الأخرى التي تعتمد على الشكل والتمثيل لأن الفنون البصرية أو الأدبية لها خصائصها الفريدة التي لا يمكن اختزالها في الموسيقى.
من خلال هذه المقولة، نيتشه لم يكن يقلل من شأن الفنون الأخرى، بل كان يحتفي بتفرّد الموسيقى كفن عالمي قادر على تجاوز حدود اللغة والثقافة ليتصل مباشرة بجوهر الإنسان. فلسفته تقدم تأملًا عميقًا في طبيعة الفن، وتفتح باب النقاش حول كيفية تفاعل الفنون مع الروح البشرية وسعيها نحو الكمال التعبيري.
ليو تولستوي والموسيقى كفن أعلى
تناول ليو تولستوي فكرة مشابهة لفكرة "كل الفنون تطمح أن تكون مثل الموسيقى"، لكنه قدمها من منظور مختلف ينبع من فلسفته الأخلاقية والإنسانية. تولستوي يرى أن الفنون كلها تسعى إلى التعبير عن المشاعر الإنسانية بطرق تجعلها مفهومة ومؤثرة للجمهور، وهذا يقترب مما تفعله الموسيقى في نظره.
تولستوي في كتابه "ما هو الفن؟" (What is Art?)، أكد أن: الموسيقى هي من أرقى الفنون لأنها تؤثر مباشرة في العاطفة، الموسيقى لا تحتاج إلى تفسير أو ترجمة، فهي تعبر عن المشاعر بأبسط الطرق وأكثرها مباشرة، الفنون الأخرى مثل الأدب والرسم تحتاج إلى قوالب محددة (كلمات أو صور بصرية) للوصول إلى المتلقي، بينما الموسيقى تتجاوز هذه الوسائط.
الفن الجيد يوحد البشرية عبر المشاعر: تولستوي يؤمن أن هدف الفن هو تعزيز التواصل الإنساني من خلال إيصال المشاعر المشتركة. في هذا الإطار، الموسيقى تتفوق لأنها قادرة على خلق هذا الاتصال بشكل فوري وشامل.
الفلسفة الفنية لتولستوي
تختلف فلسفة الفن والجمال لتولستوي عن نيتشه في كونها تُركّز على الجانب الأخلاقي والاجتماعي للفن. بالنسبة لتولستوي:
- الفن رسالة إنسانية: الفن ينبغي أن يكون وسيلة للتواصل بين البشر لنشر الخير والمحبة.
- البساطة في التعبير: الموسيقى والفنون البسيطة التي يفهمها الناس العاديون أفضل من الفنون المعقدة التي تخاطب النخبة فقط.
تولستوي كان متأثرًا بالموسيقى: استشهد بمقطوعات موسيقية مثل أعمال بيتهوفن في أعماله الأدبية، وناقش كيف تؤثر الموسيقى في تكوين الشخصية الإنسانية.
الفن في رواياته: رواياته، مثل "آنا كارنينا" و "الحرب والسلام"، تعكس رؤية تولستوي للفن كأداة لنقل العواطف وتعزيز القيم الإنسانية.
الفرق بين تولستوي ونيتشه
نيتشه: يرى الموسيقى كفن سامٍ بسبب طابعها الغريزي والعاطفي، بعيدًا عن الأخلاق. يربطها بالقوة الحيوية والحقيقة الداخلية للإنسان.
تولستوي: يرى الموسيقى عظيمة لأنها قادرة على تعزيز القيم الأخلاقية والاجتماعية، ومساعدتها في خلق التفاهم بين البشر. يعتبر أن الموسيقى تحقق الهدف الأسمى للفن، وهو الوحدة الإنسانية.
تولستوي، مثل نيتشه، أدرك قدرة الموسيقى على أن تكون لغة عالمية للمشاعر، لكنها بالنسبة له لم تكن فقط تعبيرًا عن الغرائز أو العاطفة، بل وسيلة لتحقيق التفاهم والوحدة بين البشر. يمكن اعتبار مقولته وفلسفته عن الفن امتدادًا إنسانيًا لفكرة "كل الفنون تطمح أن تكون مثل الموسيقى".
أمثلة تطبيقية على السعي نحو الحالة الموسيقية
- الرسم التجريدي: في أوائل القرن العشرين، ظهرت حركة الرسم التجريدي كجزء من محاولة الفن التشكيلي للوصول إلى الحالة الموسيقية. أعمال فنانين مثل فاسيلي كاندينسكي تهدف إلى تحقيق تأثير جمالي مشابه للموسيقى من خلال استخدام الألوان والأشكال دون الاعتماد على التمثيل.
- الشعر والموسيقى: في الشعر الحديث، هناك اتجاه نحو "موسيقية اللغة"، حيث يتم التركيز على الإيقاع والتناغم بين الكلمات أكثر من المعنى الصريح. يمكن ملاحظة هذا الاتجاه في أعمال شعراء مثل عزرا باوند وت. س. إليوت.
- السينما والموسيقى: السينما، رغم اعتمادها على السرد البصري، تسعى في كثير من الأحيان إلى استخدام الموسيقى كعنصر أساسي لتحقيق تأثير جمالي. الأفلام الصامتة، على سبيل المثال، اعتمدت بشكل كبير على الموسيقى للتعبير عن المشاعر والمواقف.
العلاقة بين الشكل والمضمون في السعي نحو الحالة الموسيقية
- 1. التوازن بين الشكل والمضمون: في الموسيقى، الشكل والمضمون يتداخلان بطريقة تجعل من المستحيل فصلهما. الفنون الأخرى تسعى إلى تحقيق نفس المستوى من التوازن، حيث يكون الشكل جزءًا لا يتجزأ من الرسالة الجمالية.
- 2. الاستقلالية الجمالية: تطمح الفنون الأخرى إلى تحقيق استقلالية جمالية مشابهة للموسيقى، حيث يكون الجمال غاية في حد ذاته وليس وسيلة لتوصيل فكرة أو سرد.
الآفاق المستقبلية للفن والحالة الموسيقية
مع تطور التقنيات الحديثة، أصبحت الحدود بين الفنون المختلفة أكثر تداخلًا. على سبيل المثال:
- الفن الرقمي: يجمع الفن الرقمي بين العناصر البصرية والموسيقية لخلق تجارب متعددة الحواس.
- الفن التفاعلي: يسعى الفن التفاعلي إلى دمج التجربة الحسية المباشرة، مثل الموسيقى، مع العناصر البصرية واللمسية.
النقاط التي تسلط عليها العبارة الضوء لفهم الفن
النقاء الجمالي للفن: يشير والتر بيتر إلى أن الموسيقى تمثل حالة من الجمال الخالص، حيث أنها ليست ملزمة بتقديم قصة أو معنى واضح، بل تعتمد على الإحساس والنغمات. لذا، فإن بقية الفنون (مثل الرسم، النحت، الأدب) تسعى للوصول إلى هذه الحالة من الصفاء الجمالي حيث يكون الشكل والمضمون في حالة توازن تام.الفن كتجربة حسية بحتة: تُبرز العبارة أهمية التجربة الحسية في تقدير الفن. فالموسيقى لا تتطلب تفسيرًا عقلانيًا بل تُقدر بشكل مباشر من خلال التأثير الذي تتركه في المستمع. وهذا يطرح سؤالًا مهمًا: هل يمكن للفنون الأخرى، مثل الرسم أو الأدب، أن تُقدَّر بطريقة مشابهة دون الغوص في الرمزية أو السياق التاريخي؟
التجريد مقابل السردية: الموسيقى فن تجريدي بطبيعته، لا يعتمد على الكلمات أو الصور المباشرة لنقل الأفكار، في المقابل، الفنون الأخرى (مثل الأدب والرسم) غالبًا ما تتعامل مع السرد أو التمثيل. يشير بيتر إلى أن الفنون البصرية والكتابية تسعى للتخلص من هذا التقييد السردي للوصول إلى جوهر التجربة الحسية التي توفرها الموسيقى.
الفن كتجربة حسية عالمية: العبارة تسلط الضوء على أن الفن، بمختلف أشكاله، يجب أن يسعى إلى خلق تجربة حسية يتفاعل معها الإنسان على مستوى عاطفي وروحي، بغض النظر عن الخلفية الثقافية أو الفهم الفكري.
البحث عن "المثالية" في الفن: الموسيقى تمثل "الحالة المثالية" للفن، وفقًا لبيتر، لأنها تمتلك قدرة فريدة على إيصال المشاعر دون الحاجة إلى وسائط إضافية.
إعادة تعريف وظيفة الفن: تُحفز العبارة النقاش حول ما إذا كان الهدف الأساسي للفن هو التعبير عن معنى معين، أم أنه يكمن في الجمال الخالص الذي يدركه الإنسان دون تفسير أو تحليل.
العلاقة بين الشكل والمضمون: الموسيقى تُظهر الانسجام بين الشكل والمضمون في أعلى درجاته. الفنون الأخرى، وفقًا لبيتر، يجب أن تسعى للوصول إلى هذا التوازن.
كيف نستفيد من قوة التعبير الفني للموسيقى
من المثير للتامل في عوامل نجاح الموسيقى هي وصولها بشكل مباشر للجمهور، نجد نماذج من الفنانين وغيرهم من استخدم تلك المعادلة في اعماله وكانت النتيجة هي وصول اعمالهم للعالمية، اذا استخدمت مميزات التعبير في الموسيقى مثل: تجاوز اللغة، التجريد للافكار، مخاطبة العواطف بشكل مباشر، خلق حبكة ديناميكية للعمل الفني، الاهتمام بالمضمون، وغيرها من جماليات الموسيقى، سوف تخلق عمل فني قادر على الصمود والنجاح أمام الزمان والمكان.
خاتمة
عبارة والتر بيتر "كل الفنون تطمح باستمرار إلى الحالة الموسيقية" ليست مجرد تأمل فلسفي حول الفن، بل دعوة لإعادة التفكير في مفهوم الجمال ودور الفن في حياتنا. الموسيقى هنا ليست مجرد فن، بل مثال يُحتذى به للفنون الأخرى، حيث يتحقق فيها التوازن بين الشكل والمضمون لتقديم تجربة جمالية خالصة، تجعلنا نعيش لحظة من الصفاء الجمالي الذي يتجاوز حدود اللغة والزمن.