كيف قدَّم جون ديوي رؤيةً فريدةً تربط بين الفن والتجربة الإنسانية، مؤكدًا أن الفن ليس كيان منفصل عن الحياة، بل هو جزء لا يتجزأ من التجربة اليومية.

يُعَدُّ الفيلسوف الأمريكي جون ديوي (1859-1952) أحد أعمدة الفلسفة البراغماتية في القرن العشرين، حيث قدَّم أفكارًا ثورية غيَّرت فهمنا للفن والجمال. في كتابه الشهير "الفن كخبرة" (Art as Experience)، كسر ديوي الحواجز التقليدية بين الفن والحياة، معتبرًا أن الفن ليس مجرد كيانٍ منفصل محصور في المتاحف والمعارض، بل هو تجربة إنسانية متجذرة في الواقع اليومي. وفقًا لرؤيته، يولد الفن من التفاعل الديناميكي بين الفرد والعالم المحيط به، مما يجعله وسيلةً أساسيةً للتعبير والتواصل. فكيف أعاد ديوي تعريف مفهوم الفن؟ وما الفارق بين الظاهرة الجمالية والظاهرة الفنية في فلسفته؟ اكتشف كيف أسهمت أفكاره في إعادة تشكيل التصورات الجمالية الحديثة.


فلسفة الفن عند جون ديوي
جون ديوي وفلسفة الفن

ما هي فلسفة الفن عند جون ديوي؟

تقوم فلسفة الفن عند جون ديوي على عدة أسس جوهرية، أهمها العلاقة بين الفن والتجربة، ورفض الفصل بين العمل الفني والحياة اليومية، والتركيز على دور التفاعل بين الفنان والجمهور. يمكن تلخيص هذه الفلسفة في عدة محاور رئيسية:

الفن كتجربة إنسانية شاملة: يرى ديوي أن الفن ليس مجرد كيان مستقل أو ممارسة نخبوية، بل هو تجربة حية تنبثق من التفاعل بين الإنسان والعالم المحيط به. ولهذا، فإن أي نشاط يومي يمكن أن يتحول إلى تجربة فنية إذا تم التعامل معه بوعي وإحساس جمالي. هذا التصور يهدف إلى دمج الفن في الحياة اليومية، بحيث يصبح جزءًا أساسيًا من الثقافة المجتمعية.

رفض الثنائية بين الفن والحياة: يعارض ديوي الفكرة التقليدية التي تفصل بين "الفن الرفيع" (High Art) و"الحياة العادية". فبدلًا من اعتبار الفن مجالًا منفصلًا يُمارَس فقط في المتاحف والمسارح، يدعو إلى رؤية الفن كجزء طبيعي من الحياة، حيث يمكن العثور على الخبرة الجمالية في كل مكان، بدءًا من التصميمات الصناعية، مرورًا بالموسيقى الشعبية، وانتهاءً بالممارسات الحرفية.

التفاعل بين الفنان والجمهور: في فلسفة ديوي، لا يكتمل العمل الفني بمجرد إنتاجه، بل يحتاج إلى متلقٍ يختبره ويتفاعل معه. فالفن ليس مجرد عملية إنتاج، بل هو تجربة ديناميكية تعتمد على التفاعل بين المبدع والجمهور. وهذا يجعل من الفن وسيلة تواصل اجتماعي، حيث يمكنه أن يؤثر في مشاعر الناس، ويغير وجهات نظرهم، ويخلق حالة من التفاعل العاطفي والثقافي بينهم.

دور السياق في فهم العمل الفني: يؤكد ديوي أن فهم أي عمل فني لا يكون ممكنًا إلا في سياقه الخاص، أي ضمن البيئة الثقافية والاجتماعية التي نشأ فيها. فالتجربة الفنية ليست مجرد إدراك شكلي للعمل، بل هي تجربة تفاعلية تتأثر بالسياق التاريخي، والثقافي، والنفسي لكل من الفنان والمتلقي. ولهذا، فإن فهم لوحة من عصر النهضة يختلف عن فهم عمل فني حديث، لأن التجربة الجمالية تتشكل وفقًا للعوامل المحيطة بها.

التربية الفنية وتعزيز الخبرة الجمالية: يشدد ديوي على أهمية تعليم الفن وتعزيز الوعي الجمالي لدى الأفراد، لأن ذلك يساعدهم على تطوير قدراتهم الإبداعية وتحسين قدرتهم على الاستمتاع بالحياة. من خلال التربية الفنية، يمكن للإنسان أن يصبح أكثر حساسية تجاه الجمال في العالم من حوله، سواء أكان ذلك في الفن أم في الطبيعة أم في الحياة اليومية.

الفن كأداة للتغيير الاجتماعي: يرى ديوي أن للفن دورًا محوريًا في تشكيل المجتمع، حيث يمكنه أن يكون أداة للتغيير والتعبير عن القضايا الإنسانية المختلفة. فالفن ليس مجرد وسيلة للتسلية، بل هو قوة مؤثرة تساعد على تحفيز الفكر، وإثارة التساؤلات، وتعزيز الوعي الاجتماعي. ولهذا، فإن الفنون يمكن أن تكون عاملاً مهمًا في بناء مجتمع أكثر وعيًا وديمقراطية.

المفاهيم الفلسفية والفنية عند جون ديوي

تمثل فلسفة الفن عند جون ديوي تحولًا جذريًا في النظرة إلى الفن، حيث يتجاوز المفهوم التقليدي الذي يحصر الفن في إطار اللوحات والمنحوتات والمقطوعات الموسيقية، ليصبح تجربة حية متجذرة في الحياة اليومية. يرفض ديوي الفصل بين الفن والحياة، مؤكدًا أن العمل الفني ليس مجرد كيان مستقل يُعرض في المتاحف، بل هو امتداد للتجربة الإنسانية والتفاعل مع العالم. يركز ديوي على أن الفن ينبثق من تجربة الإبداع، حيث تتجلى الأحاسيس والأفكار في عملية الإنتاج الفني وليس فقط في المنتج النهائي. يفرّق بين الظاهرة الفنية، التي تشمل عملية الإبداع والعمل نفسه، والظاهرة الجمالية، التي تتعلق بتجربة المتلقي وتأثره بالعمل. 

كما يرى أن السياق الثقافي والاجتماعي يلعب دورًا أساسيًا في تشكيل التجربة الجمالية، مما يجعل الفن وسيلة تواصل وتفاعل بين الأفراد. بالإضافة إلى ذلك، يؤكد على أهمية التربية الجمالية في تعزيز تقدير الفن، ويدعو إلى دمج الفن في الحياة اليومية ليكون متاحًا للجميع، وليس حكرًا على النخبة الثقافية. وبذلك، يشكل الفن لدى ديوي أداة للفهم والتغيير الاجتماعي، حيث يسهم في بناء وعي أعمق وإدراك أكثر حساسية للجمال والمعنى في الوجود الإنساني.

أهم المصطلحات الفلسفية والفنية عند جون ديوي في فلسفة الفن

التركيز على فهم المصطلحات الفلسفية يمنع التداخل والخلط بين فلسفة الفن عند جون ديوي وغيره من الفلاسفة الذين ناقشوا مفهوم الفن والجمال، وهذا ما سوف نعرضه لاحقا.

التجربة الجمالية (Aesthetic Experience) - التجربة الفنية

يشير ديوي إلى أن الجمال ليس خاصية ثابتة في العمل الفني، بل هو ناتج عن التفاعل بين العمل الفني والمتلقي. فالتجربة الجمالية هي عملية نشطة وليست مجرد تأمل سلبي، حيث يعيش المتلقي حالة من الانخراط العاطفي والذهني مع الفن.

التجربة الحية (Live Experience) - التجربة المتجذرة في الواقع

يرى ديوي أن الفن ليس مجرد كيان منفصل، بل هو امتداد للحياة اليومية. كل تجربة إنسانية يمكن أن تحمل طابعًا فنيًا إذا تمت بوعي وإحساس بالتناغم بين الفعل والإدراك.

الظاهرة الفنية (Artistic Phenomenon) - عملية الإبداع الفني

يشمل هذا المصطلح عملية الإبداع نفسها، أي كيفية ولادة العمل الفني من خلال الممارسة الفنية، والتفاعل بين الفنان والخامات والمواد التي يستخدمها، مما يجعل الفن عملية مستمرة وليست مجرد منتج نهائي.

الظاهرة الجمالية (Aesthetic Phenomenon) - تجربة التلقي والتفاعل

تركز الظاهرة الجمالية على كيفية استقبال الجمهور للعمل الفني وتأثرهم به، وهي تختلف عن الظاهرة الفنية التي تتعلق بعملية الإنتاج. فالتجربة الجمالية متغيرة وتعتمد على السياق الثقافي والذهني للمتلقي.

التواصل الجمالي (Aesthetic Communication) - الفن كوسيلة تفاعل

يرى ديوي أن الفن ليس مجرد وسيلة للتعبير الفردي، بل هو أداة تواصل بين الأفراد والمجتمعات. فكل عمل فني يحمل داخله رسالة، سواء كانت مباشرة أو غير مباشرة، تؤثر في الجمهور وتعيد تشكيل فهمهم للعالم.

الاستمرارية بين الفن والحياة (Continuity Between Art and Life) - رفض الفصل بين الفن والواقع

يرفض ديوي الفصل التقليدي بين الفن والحياة اليومية، حيث يؤكد أن الفن ليس حكرًا على المعارض والمتاحف، بل يمكن أن يكون حاضرًا في كل نشاط بشري، مثل التصميم، الحرف اليدوية، والطقوس اليومية التي تتم بروح إبداعية.

التجربة التربوية الجمالية (Aesthetic Education) - دور التربية في فهم الفن

الفن والمجتمع: دور التربية الفنية، يؤكد ديوي على أهمية التربية الفنية في تنمية الحس الجمالي وتعزيز التجربة الإنسانية. فهو يرى أن الفن يلعب دورًا حيويًا في بناء مجتمع ديمقراطي، حيث يتيح للأفراد التعبير عن أنفسهم والتفاعل مع الآخرين بطرق إبداعية.

من هذا المنطلق، يدعو ديوي إلى دمج الفن في المناهج التعليمية، مؤكدًا أن التربية الفنية تسهم في تطوير التفكير النقدي وتعزيز القدرة على التفاعل مع العالم بطرق متعددة. فهي تساعد الأفراد على فهم تجاربهم وتجارب الآخرين، مما يعزز التفاهم والتعاطف داخل المجتمع.

يركز ديوي على أهمية التعليم الجمالي في تنمية الحس الفني لدى الأفراد، بحيث لا يكون الفن مقتصرًا على النخبة المثقفة، بل متاحًا للجميع. التربية الجمالية تساعد في تقدير الجمال في التفاصيل اليومية وليس فقط في الأعمال الفنية الكبرى.

الفن كتجربة (Art as Experience) - جوهر فلسفة ديوي

الفن كتجربة: جوهر فلسفة ديوي، يرى ديوي أن الفن ينبع من التجربة الإنسانية، وأنه وسيلة للتفاعل مع العالم من حولنا. فهو يرفض الفكرة التقليدية التي تفصل بين الفن والحياة، ويؤكد أن العمل الفني هو نتاج تفاعل ديناميكي بين الفنان وبيئته. بهذا المعنى، يصبح الفن تجربة حية تعكس تفاعل الإنسان مع محيطه.

في هذا السياق، يشير ديوي إلى أن التجربة الفنية ليست مجرد استجابة سلبية للمثيرات الخارجية، بل هي عملية نشطة يشارك فيها الفرد بوعيه ومشاعره. فالفن، بالنسبة له، هو تعبير عن الحياة وتجسيد للتجارب الإنسانية بطرق مبتكرة.

يرى ديوي أن الفن ليس مجرد عمل مكتمل يُعرض في المتاحف، بل هو تجربة متكاملة تبدأ من الإبداع وتنتهي بالتلقي، مما يعني أن كل من الفنان والجمهور يشاركان في العملية الفنية بشكل متداخل.

ما المقصود بالفن كخبرة؟

المقصود بالفن كخبرة عند جون ديوي هو أن الفن ليس مجرد كيان منفصل عن الحياة، بل هو تجربة متكاملة يعيشها الفنان أثناء الإبداع، ويشعر بها المتلقي عند التفاعل مع العمل الفني. فبدلًا من اعتبار الفن شيئًا مغلقًا داخل المتاحف والمسارح، يرى ديوي أن التجربة الجمالية يمكن أن تحدث في أي لحظة من الحياة اليومية، سواء في تأمل الطبيعة، أو الاستماع إلى موسيقى عابرة، أو حتى في ممارسة نشاط يدوي مثل النحت أو الحياكة. التجربة الفنية ليست فقط ناتجًا نهائيًا، بل هي تفاعل بين الإحساس، والإدراك، والانفعالات التي تتولد أثناء عملية الإبداع أو التلقي.

يركز ديوي على أن الفن الحقيقي هو ذلك الذي ينجح في خلق وحدة وانسجام بين الأحاسيس والأفكار، حيث يصبح الإدراك الجمالي تجربة غنية تمتد إلى جميع جوانب الحياة. في هذا الإطار، فإن إعداد وجبة طعام بعناية، أو تصميم مبنى بجمالية، أو حتى العيش في لحظة تأملية داخل الطبيعة، يمكن أن يكون تجربة فنية بحد ذاته. يرى ديوي أن الفن ليس امتيازًا للنخبة، بل حق إنساني يجب دمجه في نسيج الحياة اليومية، بحيث تصبح كل لحظة من الحياة قابلة لأن تكون تجربة جمالية إذا تم عيشها بوعي وإحساس.

بهذا الطرح، يعيد ديوي تعريف الفن ليصبح أوسع من مجرد إنتاج اللوحات والمنحوتات، ويمتد ليشمل كل لحظة يتحقق فيها الانسجام بين العاطفة والفكر، مما يجعل الفن جزءًا لا يتجزأ من التجربة الإنسانية بأكملها.


فلسفة الفن والجمال عند جون ديوي 

تشكل فلسفة الفن عند جون ديوي تحولًا جذريًا في النظرة إلى الفن، حيث تخرجه من قاعات المتاحف والمعارض، وتعيد دمجه في الحياة اليومية كجزء من التجربة الإنسانية العامة. من خلال التركيز على التفاعل بين الفنان والمتلقي، والتأكيد على دور التجربة الجمالية في بناء الوعي، يفتح ديوي أفقًا جديدًا لفهم الفن كوسيلة للتواصل والتعبير عن التجربة الإنسانية. هذه الرؤية لا تزال تؤثر في النقاشات الفلسفية والفنية حتى اليوم، حيث تسهم في توسيع مفهوم الفن ليشمل كل ما يعزز الشعور بالجمال والمعنى في حياتنا اليومية.

الجمال والتجربة الجمالية

يُعرِّف ديوي التجربة الجمالية بأنها تلك اللحظات التي يشعر فيها الفرد بالانسجام والتكامل بين عناصر التجربة. فهي لحظات يتوحد فيها الإدراك والشعور، مما يخلق حالة من الرضا والاكتمال. ويرى ديوي أن هذه التجارب ليست مقتصرة على الأعمال الفنية التقليدية، بل يمكن أن توجد في أي جانب من جوانب الحياة اليومية، مثل مشاهدة غروب الشمس أو الاستمتاع بوجبة لذيذة.

بهذا الفهم، يتجاوز ديوي النظرة التقليدية للجمال كخاصية ثابتة في الأشياء، ويعتبره نتيجة للتفاعل بين الفرد وبيئته. فالجمال، في نظره، هو تجربة نعيشها وليس صفة نمتلكها.

التعبير الفني: من الذات إلى العالم، يركز ديوي على مفهوم التعبير في الفن، حيث يرى أن الفنان يعبر عن تجاربه ومشاعره من خلال العمل الفني. هذا التعبير ليس مجرد نقل مباشر للمشاعر، بل هو عملية معقدة تتضمن تحويل التجربة الداخلية إلى شكل خارجي يمكن للآخرين فهمه والتفاعل معه.

في هذا السياق، يشير ديوي إلى أن العمل الفني يجب أن يكون قادرًا على التواصل مع الجمهور، وأن يثير فيهم استجابات جمالية. فالفن، بالنسبة له، هو وسيلة للتواصل والتفاعل بين الأفراد والمجتمع.

كيف يعرف ديوي الفن؟

يعرّف جون ديوي الفن على أنه تجربة حيّة نابضة بالحياة، وليس مجرد كيان منفصل عن العالم أو نشاط محصور في المتاحف والمسارح. فهو يرفض النظرة التقليدية التي ترى أن الفن يتمثل فقط في الأعمال الفنية المكتملة أو القطع الفنية المحفوظة في المعارض، ويؤكد أن الفن ينبع من التجربة الإنسانية المباشرة، حيث يُعبّر عن تفاعل الإنسان مع بيئته وشعوره بها. بالنسبة لديوي، الفن ليس مجرد عملية تقنية لإنتاج الجمال، بل هو وسيلة تعبيرية تعبّر عن التجربة الإنسانية بأعمق صورها.

في كتابه "الفن كخبرة" (Art as Experience)، يطرح ديوي فكرة أن العمل الفني لا ينحصر فقط في المنتج النهائي، بل يمتد ليشمل العملية الإبداعية نفسها، أي تجربة الفنان أثناء إنتاج العمل، وتجربة المتلقي عند التفاعل معه. هذه النظرة تجعل من الفن شيئًا حيًا ومتغيرًا وليس مجرد كيان جامد. يعتقد ديوي أن الفن ينبثق من الحياة اليومية، حيث يمكن للإنسان أن يعيش تجربة جمالية من خلال ملاحظة تفاصيل الحياة العادية، مثل شكل أمواج البحر، أو حركة أوراق الشجر في الريح، أو حتى في إيقاع العمل اليدوي الذي يؤديه الحرفي.

من هذا المنطلق، لا يُعدّ الفن بالنسبة لديوي نوعًا من الرفاهية أو الترف الثقافي، بل هو عنصر أساسي في التجربة الإنسانية، حيث يتجلى في جميع مظاهر الحياة، سواء أكان في اللوحات التشكيلية أو الموسيقى أو حتى في تصميم الأدوات المنزلية. بهذه الرؤية، يسعى ديوي إلى دمج الفن في الحياة اليومية، بحيث لا يكون حكرًا على النخبة أو مقتصرًا على الأوساط الأكاديمية والفنية المتخصصة، بل تجربة يستطيع الجميع التفاعل معها والاستمتاع بها.

ما الفرق بين الظاهرة الفنية والظاهرة الجمالية عند جون ديوي؟

يفرّق ديوي بين الظاهرة الفنية والظاهرة الجمالية بناءً على العلاقة بين العملية الإبداعية من جهة، والتجربة الشعورية التي تنشأ عن التفاعل مع العمل الفني من جهة أخرى.

الظاهرة الفنية، وفقًا لديوي، تتعلق بالعملية الإبداعية نفسها، أي بالجهود التي يبذلها الفنان أثناء إنتاج العمل الفني. وهي تشمل التفكير، والتخطيط، والممارسة، والصياغة، والتعديل، وصولًا إلى الشكل النهائي للعمل. يرى ديوي أن الظاهرة الفنية ليست مجرد مهارة تقنية، بل هي تجربة معقدة يعيشها الفنان أثناء سعيه لخلق شيء جديد. وهي تتطلب اندماج الفنان بشكل كامل في العمل، بحيث يصبح جزءًا من تجربته الذاتية.

أما الظاهرة الجمالية، فتشير إلى تجربة المتلقي عند التفاعل مع العمل الفني. عندما يرى المشاهد لوحة فنية، أو يستمع إلى مقطوعة موسيقية، أو يقرأ قصيدة، فإنه يمرّ بتجربة شعورية خاصة، قد تثير فيه الإعجاب، أو التأمل، أو حتى الاضطراب والدهشة. هذه التجربة هي ما يسميه ديوي "الخبرة الجمالية"، والتي تحدث عندما يكون هناك انسجام بين الإدراك الحسي والشعور الداخلي، مما يجعل العمل الفني يبدو وكأنه جزء من التجربة الحياتية للمتلقي.

ويؤكد ديوي أن الظاهرة الجمالية لا تقتصر على الأعمال الفنية بالمعنى التقليدي، بل يمكن العثور عليها في الطبيعة، مثل الاستمتاع بجمال غروب الشمس، أو في تجارب الحياة اليومية، مثل إحساس الرضا عند إتقان مهمة معينة. وبذلك، فإن الظاهرة الجمالية أوسع من الظاهرة الفنية، حيث إنها لا تقتصر فقط على الإنتاج الفني، بل تشمل كل تجربة قادرة على إثارة مشاعر وانفعالات جمالية لدى الإنسان.

الفلاسفة الذين تتلاقى أفكارهم مع جون ديوي

يمكن اعتبار جون ديوي امتدادًا لتيار الفلسفة البراغماتية، التي تركز على التجربة العملية والتفاعل المستمر بين الفرد والعالم. في هذا السياق، تتلاقى أفكاره مع ويليام جيمس، الذي شدد على أهمية التجربة الذاتية في تشكيل المعرفة، ومع تشارلز ساندرز بيرس، الذي ركز على التفاعل بين الإدراك الحسي والمعنى. كما تتقاطع أفكاره مع موريس ميرلو-بونتي، الفيلسوف الظاهراتي الذي أكد على أن الإدراك الحسي والتجربة الجسدية هما الأساس لفهم الفن والجمال.

إضافةً إلى ذلك، هناك صلة بين ديوي وفريدريش شيلر، الذي رأى أن الجمال والفن يلعبان دورًا رئيسيًا في تحقيق الحرية الإنسانية، إذ يعزز الفن تجربة التوازن بين العاطفة والعقل. كذلك، تتشابه أفكاره مع هربرت ماركوز من مدرسة فرانكفورت، الذي اعتبر أن الفن يمكن أن يكون وسيلة لتحرير الإنسان من الأنظمة القمعية، حيث يمتلك قوة تعبيرية قادرة على كشف التناقضات الاجتماعية. كما أن تركيز ديوي على التجربة الجمالية يقترب من طرح مارتن هايدغر حول العلاقة بين الفن والوجود، حيث يرى أن الفن يكشف عن حقائق عميقة عن العالم.

أما على صعيد علم الجمال، فإن ديوي يقترب من نظريات جون رسكن وويليام موريس، اللذين أكدا على ضرورة دمج الفن في الحياة اليومية وإعادة إحياء القيم الجمالية في الحرف والتصميم. كما يلتقي مع الفيلسوف الفرنسي هنري برغسون، الذي شدد على أهمية الحدس والتجربة المباشرة في استيعاب الفن. وبذلك، تتشابك أفكار ديوي مع مجموعة واسعة من الفلاسفة الذين نظروا إلى الفن كتجربة حية، وليس كمجرد منتج معزول عن واقع الإنسان.

هل كانت فلسفة الفن عند جون ديوي امتدادًا للفلاسفة الكلاسيكيين أم الفلاسفة المعاصرين؟

يمكن اعتبار فلسفة الفن عند جون ديوي ثورة فكرية خرجت عن الإطار التقليدي الذي وضعه الفلاسفة الكلاسيكيون مثل إيمانويل كانط وهيغل وأفلاطون، لكنها في الوقت ذاته تشترك مع بعض الفلاسفة المعاصرين له في نظرتهم إلى الفن كعملية حية متصلة بالتجربة الإنسانية. فعلى الرغم من أن ديوي لم يكن امتدادًا مباشرًا للفكر الجمالي الكلاسيكي، إلا أن فلسفته لا يمكن فصلها بالكامل عن هذا التراث الفلسفي، خاصة فيما يتعلق بمحاولته تجاوز بعض المفاهيم الثابتة عن الجمال والفن.

القطيعة مع الفلاسفة الكلاسيكيين (كانط، أفلاطون، هيغل)

في الفلسفات الكلاسيكية، كان الفن غالبًا يُنظر إليه على أنه منفصل عن التجربة اليومية، ويخضع لمعايير مطلقة ومجردة. إيمانويل كانط، على سبيل المثال، كان يرى أن الجمال هو تجربة مستقلة عن المنفعة والوظيفة، أي أنه "غائية بلا غاية"، مما يعني أن العمل الفني يُقدَّر لجماله المجرد وليس لأي دور عملي له في الحياة. بالمثل، كان أفلاطون يرى أن الفن هو مجرد محاكاة للحقيقة المثالية، مما جعله يحتل مرتبة أدنى من الحقيقة الفلسفية. أما هيغل، فقد نظر إلى الفن على أنه تجلٍّ للروح المطلقة، لكنه رآه في النهاية مرحلة ناقصة مقارنةً بالفلسفة والدين.

ديوي رفض هذه النظرة التجريدية للفن، حيث اعتبر أن الجمال ليس جوهرًا ثابتًا أو مفهومًا مجردًا، بل تجربة حية تتغير وفقًا للسياق الاجتماعي والثقافي. كما أنه رفض فصل الفن عن الحياة العملية، ورفض فكرة أن الفن يجب أن يكون منفصلًا عن النفعية أو يكون مجرد انعكاس لمُثلٍ عليا.

التأثر بالفكر الحديث والمعاصرين له

على الرغم من أن ديوي كان ناقدًا للأفكار الجمالية الكلاسيكية، إلا أن فلسفته تلاقت مع بعض التيارات الفلسفية الحديثة التي بدأت في إعادة النظر في طبيعة الفن والجمال. كان قريبًا من التيارات البراغماتية التي تأثرت بها فلسفته العامة، والتي تتجسد في أعمال ويليام جيمس وتشارلز ساندرز بيرس. كما أن فكره اقترب من أفكار هنري برغسون، الذي شدد على دور التجربة والحدس في استيعاب الجمال، حيث يرى برغسون أن الفن ليس مجرد محاكاة، بل هو انفتاح على تدفق الزمن الحي.

أيضًا، نجد أن ديوي يتقاطع مع بعض مفاهيم الفن الحديث كما طُرحت من قِبَل الفلاسفة الظاهراتية مثل موريس ميرلو-بونتي، الذي أكد أن الفن ينبع من الإدراك الحسي المباشر وليس من مجرد تأمل عقلي بارد. هذا التشابه يظهر في تركيز ديوي على أهمية التفاعل الجسدي والعاطفي مع الفن، وليس فقط تأمله من منظور فكري مجرد.

مقارنته مع نيتشه ومارسيل دوشامب

يمكن القول إن ديوي شارك في بعض الجوانب مع فريدريك نيتشه، الذي كان يرى أن الفن ليس مجرد محاكاة للعالم بل هو قوة إبداعية تحول الحياة نفسها. كذلك، نجد تقاطعًا بين أفكار ديوي وتوجهات بعض الحركات الفنية الطليعية في القرن العشرين، مثل الدادائية والسريالية، التي رفضت التعريفات التقليدية للفن وأكدت على دمجه بالحياة اليومية. فمثلاً، أعمال مارسيل دوشامب، الذي حوّل الأشياء العادية إلى فن (مثل "النافورة" التي لم تكن سوى مبولة عادية وُضعت في معرض فني)، تتقاطع مع فكرة ديوي حول أن الفن يمكن أن يوجد في كل شيء، وليس محصورًا في قاعات العرض الرسمية.

نحو فلسفة فن جديدة: الفن كتجربة حية

ما يميز فلسفة ديوي أنه لم يحاول فقط إعادة تعريف الفن، بل سعى إلى إعادة دمجه في الحياة اليومية، مما يجعله أكثر تحررًا مقارنةً بالفلاسفة الكلاسيكيين الذين حصروا الجمال في قوالب مثالية مجردة. كما أنه تجاوز الكثير من الفلاسفة المعاصرين له الذين ظلوا يتعاملون مع الفن داخل الإطار الأكاديمي، بينما كان ديوي ينادي بجعل الفن جزءًا أساسيًا من التجربة الحياتية للناس العاديين.

الخلاصة: فلسفة الفن عند جون ديوي ليست امتدادًا مباشرًا للفكر الجمالي الكلاسيكي، بل هي نقد جذري له، حيث رفض الفصل بين الفن والحياة، ورفض فكرة الجمال المطلق والمثالي كما طرحها كانط وأفلاطون. ومع ذلك، لم يكن ديوي منفصلًا عن التطورات الفلسفية في عصره، بل كان متأثرًا بالبراغماتية والظاهراتية، متقاطعًا مع أفكار برغسون ونيتشه وبعض الحركات الفنية الحديثة. يمكن القول إنه قدَّم رؤية جديدة للفن كتجربة حية، وليس مجرد كيان منفصل عن الواقع، وهو بذلك فتح الباب أمام فلسفات الفن المعاصرة التي تسعى إلى كسر الحدود التقليدية بين الفن والمجتمع.

نقد فلسفة ديوي في الفن

على الرغم من التأثير الكبير لفلسفة ديوي في مجال الفن، إلا أنها لم تسلم من النقد. فقد اعتبر بعض النقاد أن تركيزه على التجربة قد يؤدي إلى نسبية مفرطة في تقييم الأعمال الفنية، حيث يصبح الحكم على الفن مسألة ذاتية بحتة.

بالإضافة إلى ذلك، رأى آخرون أن ربط الفن بالتجربة اليومية قد يقلل من قيمة الفن ككيان مستقل، ويجعله مجرد انعكاس للحياة اليومية دون عمق أو تعقيد.

تأثير فلسفة ديوي على الفن المعاصر

على الرغم من الانتقادات، لا يمكن إنكار التأثير العميق لفلسفة ديوي على الفن المعاصر. فقد ألهمت أفكاره العديد من الفنانين والمربين لإعادة النظر في دور الفن في المجتمع، والتركيز على جعله جزءًا من التجربة الإنسانية اليومية.

كما أن مفهومه للتجربة الجمالية قد أثر في تطوير نظريات جديدة في علم الجمال، تركز على تفاعل الفرد مع العمل الفني بدلاً من التركيز على خصائص العمل نفسه.

الخاتمة

قدمت فلسفة جون ديوي في الفن رؤية شاملة تربط بين الفن والتجربة الإنسانية، وتؤكد على دور الفن في تعزيز التفاعل والتواصل داخل المجتمع. وعلى الرغم من الانتقادات التي وُجِّهت إليها، إلا أنها تظل مصدر إلهام للعديد من الفنانين والمربين الذين يسعون إلى جعل الفن جزءًا لا يتجزأ من الحياة اليومية.

من خلال فهمنا لفلسفة ديوي، ندرك أن الفن ليس مجرد كيان منفصل أو نشاط نخبوية، بل هو تجربة حية تعكس تفاعلنا مع العالم وتعمق فهمنا لذواتنا وللآخرين. هل صمدت فلسفة جون ديوي امام قدرة الآلة على انتاج الفن وتطور الذكاء الصناعي؟، هذا ما سوف نناقشة في المستقبل على فنون بوك ، شارك بتعليق على صفحتنا.


مواضيع مهمه
فلسفة الفن
مواضيع متنوعة:

Share To:

Next
This is the most recent post.
Previous
رسالة أقدم
About Me

Mohamed Magdy is a fine artist, professional in oil painting, classic furniture and decor designer, writer, and researcher in the humanities. .Follow me

Post A Comment:

backtotop

الموافقة على ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط ليقدم لك تجربة تصفح أفضل. باستخدام موقعنا ، فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط

قراءة المزيد